الوفاء استتمامٌ لما يُقْطعُ على النفس[1]، وبرٌّ بالوَعد، واستكمالٌ للعمل، وصدقٌ مع الخِلِّ وغيره.
وحُسنُ الوفاء يتبدَّى في قُبح نقيضه من إخلافٍ للوَعد، ونقضٍ للعهد، وخيانةٍ للصَّديق، وحِنثٍ بالقَسَم.
الوفاء كنزٌ عظيم، وخُلقٌ كريم، وسَجيةٌ نبيلة تتقلَّدها النفسُ الطيبةُ عِقداً، وتحتضنُها شُعوراً فيَّاضاً يزدحم في ذاتِها، فتُرسلهُ تارةً على شكلِ عطرٍ يفوح، وأُخرى على شكل أمَلٍ يُلامسُ المشاعرَ الإنسانيَّة الصافية ليَفتَرَّ عنها ضياءُ التفاؤل.
الحسناتُ يُذهبنَ السيئات، والفضائلُ تُعمي عيونَ الرَّذائل؛ إذْ تنبهرُ الأخيرةُ من ضِيائها، وتصغُر، ثم تنكمشُ على نفسها، وتتلاشى أمامَ بهائها وجَلالها؛ لأن الحقَّ أبلج، والباطل لجلج.
الوفاء نجومٌ تتلألأ وربيعٌ يُزهرُ، وأغصانٌ تثمر، أما الغدرُ فعتمٌ دامِس، وريحٌ صَرصَر عاتية.
قال تعالى: {بَلى مَن أَوفى بعَهدِه واتَّقى فإنَّ اللهَ يُحبُّ المتَّقين}[آل عمران: 76].
وقال تعالى: {وأَوفُوا بعَهدِ اللهِ إذا عَاهَدتُّم} [النحل:91].
رَفرَفَ الوفاء بجناحَيه الجميلَين فوق البساتين النَّاضِرة، يبحث عن غُصنٍ يَحطُّ عليه، فما وجدَ أزهى ولا أندى، ولا أدفأَ من حِضن الأم.
نعم لقد سكنَ قلبَ الأمِّ الحنون فوجدَ عندها ضالَّته؛ إذ احتضنَه قلبُها، ومسحَت يَداها على جَناحَيه الزَّاهِيَين، فهذَّبت الريشَ ومشَطَتْهُ، وسقَتْه من وَريدها، وغطَّتْه بشَغافِها، وعندما تروَّى من الأمان، وتعطَّر من الحب، أرسلَتْهُ حمامةَ سلامٍ تهدِلُ بألحانها، وتترنَّم بكلماتها حاملةً رسالةَ المحبَّة والوئام، وبلبلاً يُغرِّدُ فوقَ الخمائل، فتطرَبُ الفراشاتُ لصوته، وتنسكبُ السعادةُ في أنسامِ المدى ليتصبَّب طَلاًّ يُكلِّلُ البراعمَ المشتاقة.
الوفاء يكسو وجهَ صاحبهِ مهابةً ونُضرة، ويورثُ حياةَ القلب، لأنه رحيقٌ تُنتجه زهرةُ الإيمانِ المتفتِّحةِ والمُشرقَة في النفوس الرَّضيَّة.
ولكَم نشعرُ بالسَّعادةِ عندما يَهمِسُ لنا صديقٌ بكلمةِ حُبّ، ويبوحُ طالبٌ من طلابنا بهمسةِ احترام، وجارٌ من جيراننا بلمسةِ حنان.
الوفاءُ كالسَّحاب الذي إذا ما تماسَكَت عُراه، وانتَظمت ذرَّاته، وتورَّدت وَجَناتُه فإنه لابدَّ أن ينهمرَ بالغَيث الذي هو مادةُ الحياة الأساسية.
قال تعالى: {أوَلَم يَرَ الَّذينَ كَفَروا أنَّ السَّمواتِ والأرضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤمِنون} [الأنبياء:30].
إذا تمكَّن الوفاءُ من نفس طيِّبة فإنَّ خُيوطَ ضيائِه ستخترقُ جُدرانَ القلب، لِتُفيضَ من يَنْبوع الأُبُوَّة حِرصاً ومَبدءاً، ومن حَنان الأم تضحيةً، ومنَ الأبناء بِرّاً وطاعة، ومن خَندَقِ الجنود إيماناً وذَوداً عن الدِّين والوطن.
ومن صُورِ الوفاءِ الرائعة وفاءُ الزوجِ لزوجته، والزوجةُ لزوجها، فقد سطَّر نبيُّ الرحمةِ محمدٌ صلى الله عليه وسلّم أصدقَ معاني الوفاء لزوجهِ خديجةَ رضي اللهُ عنها فكان لا ينفكُّ يذكرُ محاسنَها وفضائلَها، ويدعو لها بالمغفرة، وهي المبشَّرة بالجنَّة، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم فقال: يارسول الله، هذه خديجةُ قد أتَت معها إناءٌ فيه إدامٌ أو طعامٌ أو شَراب، فإذا هي أتَتْك فاقرأ عليها السلامَ مِن ربِّها ومنِّي، وبَشِّرها ببيتٍ في الجنَّةِ من قَصَب لا صَخَبَ فيه ولانَصَب[2].
الوفاءُ بالنَّذرِ واجبٌ على المسلم، وهذه لمسةٌ بيانيَّةٌ قرآنيَّة رائعة تدلُّ على مكانة الكلمةِ عند المسلم وأهميَّتها.. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((النَّذرُ نَذرانِ فَما كانَ مِن نَذرٍ في طاعَةِِ اللهِ فذَلِكَ للهِ وفيهِ الوَفاء، وما كانَ مِن نَذرٍ في مَعصِيةِ الله فذَلِكَ للشَّيطان، ولا وَفاءَ فيهِ، ويُكَفِّرُه ما يُكفِّرُ اليَمين))[3].
وقال تعالى: {يُوفُونَ بالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوماً كانَ شَرُّهُ مُستَطِيرا} [الإنسان: 7].
ودونَكُم بعضَ الروائع التي قيلت في الوَفاء[4]:
وَفاءُ الفَتى يُغني ومَن عُدِمَ الوَفا فَلَم يَكْفِهِ أنْ يَملِكَ الغَربَ والشَّرقا
لا تركُنَنَّ إلى مَنْ لا وَفاءَ لهُ فالذِّئبُ مِن طَبعِه إِنْ يَقْتَدِر يَثِبِ
عُودوا لما كُنتُم عَلَيهِ منَ الوَفا كَرَماً فإنِّي ذَلكَ الخِلُّ الوَفِيّ
وقيلَ أيضاً:
– الجُودُ بَذلُ الموجُود، والوَفاءُ تَحقيقُ الموعود.
– الكريمُ إذا وعَدَ وفى.
– أمْهِلِ الوعدَ وعَجِّل بالوَفاء.
الوفاء يتَّخذُ أشكالاً وألواناً، وكلُّها أخَّاذة فتَّانة، فهو أشبهُ بأنواع الزُّهور، فعبيرُ كلِّ واحدةٍ منها يختلفُ عن عَبير الأُخرَيات.
وأجملُ الوفاءِ ما كان للخالق عزَّ وجلَّ؛ الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهَدى، والذي أخرجَ المَرعى.. الوفاءُ للخالق يتمثَّل في توحيدهِ وعِبادتِه وشُكره بالأقوال والأفعال، وحُسنِ معاملةِ عيالِه والصِّدق معهم.
ـــــــــــــــــــــــــ ــ
[1] المكنز الكبير، للدكتور أحمد مختار عمر. الطبعة الأولى م.
[2] صحيح البخاري، الحديث رقم (3609).
[3] صحيح البخاري، الحديث رقم: 3845.
[4] موسوعة روائع الحكمة، د. روحي البعلبكي.
.